الجمعة، 25 أكتوبر 2019

مطالعة: (مُغفَّلون ومُحتالُون)، أقصوصة: (الأدب الإفريقيّ): 2019-2020



أستاذة العربيّة: فوزيّة الشّطّي، درس مطالعة، أقصوصة: 'مغفَّلُونَ ومُحتالُون
 1ث، معهد المنتزه، 19-2020
{ كانتِ الأوساخُ تُغطِّي أسمالَهما الباليةَ وقد رُشَّ شعرُهما وقدماهما الوسِختان بغبارٍ صدِئٍ. أمّا متاعُهما فكان بأسْره يتكوّن مِن كيسٍ مليءٍ حتّى الاكتظاظ. وقد حمله أحدُهما على كتفِه. وكانا يسيران على الجسرِ باتّجاه 'إيدوموتا'. وكان مظهرُهما بكامله يُوحي بأنّهما غادرا القريةَ منذ فترةٍ قريبة. عابرُو السّبيل الـمُغْبرّون والأكياسُ على ظهورهم منظرٌ مألوف بالنّسبة إلى 'لاغُوس'. لكنّ هذيْن الاثنيْن كانا يسترعِيان النّظرَ بشكل خاصّ. كانا يسيران أحدُهما وراء الآخر وكأنّهما يعْبُران غابةً ويتحاشَيان الاصطدامَ بأيٍّ مِن المارّةِ المسرعين نحو مختلف الاتّجاهات، ويتنفضان في كلِّ مرّة عندما تنطلق أبواقُ السّيّارةِ الحادّةُ. وبدا أنّ منظرَ الهوّة المائيّة والسّيّارات والدّرّاجات النّاريّة والعاديّة والمنطلِقة جميعا فوق الجسر الهائل في الاتّجاهيْن، قد أثارَ في قلبيْهما الهلعَ.
{ في الاتّجاهِ المضادِّ وفي مواجهتِهما مِن ناحية 'إيدُومُوتا' كان رجلٌ يسير بهدوءٍ فوق درّاجته. كان يرتدي سروالا وقميصا فاتحيْ اللّونِ. ولم تكنْ ثَـمَّةَ أيُّ بقعةٍ على حذائه ذي اللّونيْن الأسود والأبيض. أمّا قبّعتُه البيضاء ذاتُ الواقية فقد أمالَها على جبينه. وإذْ لاحظ ذيْنكَ الفلاّحيْن يحدّقان بأنظارهما في دُوّامةِ البشر، ضَغط على مكابحِ الدّرّاجة. وبينما كان ينتظر توقّفَهما، لم يُحوّلْ عنهما نظرتَه الفاحصة. واقتربتْ منه سيّارةٌ قديمة. ثمّ تلتْها سيّارةٌ أخرى. فانطلق مِن بعدها كالسّهم عبر الجسر. ودنا مِن الزّوج الّذي استوقف نظرَه. هتف بهما وهو يبتسم ابتسامةً مُشرِقة: «سلاما». فانتفض الاثنان، وحثّا السّيرَ. لكنّ صاحبَ الدّرّاجة لم يتخلّفْ عنهما. وقال وهو يبتسم ابتسامةً أوسعَ: «أعرفُ مِن أين جئتُما. أنا واثقٌ أنّكما مِن 'إينُوغو'. لي صديقٌ هناك. وأنتما قريبا الشّبه به». اِلتصق صاحبُ الكيس بالحاجزِ. أمّا رفيقُه فاتّجهَ إلى صاحب الدّرّاجة. وأجابه: «حقّا، نحن مِن 'إينُوغو'. هل كنتَ هناك؟». قال صاحبُ الدّرّاجة: «طبعا. بل عشتُ فيها فترةً طويلة. لي في 'إينُوغو' صديقٌ، 'إيمُودي'. ما أشبهكَ به! لا شكّ أنّكَ أخوه». أجاب الغريبُ: «بلَى. 'إيمُودي' ابنُ أبي وأمّي. وهو يعمل مقاولَ بناءٍ في 'إينُوغو'. ونحن نعيشُ في 'إسَاتا'. أنتَ تعرفُه إذنْ؟». صاح صاحبُ الدّرّاجة: «أعرفُ 'إيمُودي'، أعرفه. ولا شيءَ يمكنُ أن يفرّقَ بيننا. كلُّ شاحنات البناء يطلبُها منّي. فأنا تاجرُ شاحنات. أنتَ وصديقُك للمرّة الأولى في 'لاغُوس'؟». «نعمْ، لأوّل مرّة. وأنا أيضا أريد شراءَ شاحنة». قال صاحبُ الدّرّاجة: «إيه، يا صديقي. حظُّك كبير. ما اسـمُك؟». «'أوكُونكفو. «وصديقُك؟». «'أُوكيكي. «حظُّك مِن السّماء، يا 'أوكُونكفو'. اللهُ بعثني إليكَ. حظُّكما كبير. فـ'لاغُوس' مليئةٌ بالـمُحتالين. وبسرعةٍ يمكن أن يخدعوكما وينظّفوا جيوبَكما. كمْ شاحنةً تحتاجُ؟». أجابَ 'أوكُونكفو': «واحدةً فقط». «واحدة؟ هذا مِن أيسرِ الأمور. يمكن أن أؤمّنَها لك اليومَ أو غدا على أبعد تقدير. ولعلّ اليومَ متأخّرٌ... أمّا غدا فيمكن أن نُنهيَ الموضوعَ بسرعة. ألديكما مكانٌ تبيتانِ فيه؟». أجاب 'أوكُونكفو': «كان لي واحدٌ مِن المعارف لا أعرف أين يعيشُ. لكنْ سنحاولُ البحثَ عنه». قاطعه صاحبُ الدّرّاجة قائلا: «ماذا تقول بحقّ الله؟! لِنذهبْ إلى بيتي. ألستَ أخَ صديقي؟ ماذا يقول عنّي إذا عرف أنّني لم أدعُوكما إلى البيت؟ هيّا بنا». ولـمّا سمع 'أوكُونكفو' الدّعوةَ هزّ رأسَه وقال: «أنا لا أثِق بأهلِ المدينة. وقد حذّرني النّاسُ، وقالوا إنّ المدينةَ ملأَى بالنّصّابين. أنا لا أعرفكَ. أنتَ تزعُمُ أنّكَ صديقٌ لأخي. ولكنّي مع ذلك خائفٌ». فأكمل صاحبُ الدّرّاجة بقوله: «معكَ حقٌّ. معكَ حقٌّ. ولكنْ منّي بالذّات لا تخفْ. بل إنّ صديقي، أخاكَ، قد كتبَ لي رسالةً يخبرني فيها بمجيئكَ. أصحيحٌ أنّني لم أُخبرْكَ بذلك؟ الحمدُ لله أنّكما قابلتُماني على الفور». قال 'أوكُونكفو': «إيه، يبدو لي أنّي لا أخافُ مِنكَ. ولكنْ يجب أن أستشيرَ 'أوكيكي. هزّ 'أوكيكي' رأسَه ردّا على الدّعوة، وقال بصوتٍ عالٍ بأنّ تلك الدّعوةَ مَصْيدةٌ وأنّهم يُريدون بذلك أن يسلبوهما نقودَهما. لكنّه بعد محاولاتٍ طويلة للإقناع، وافق. واتّجه الثّلاثةُ معا إلى منزلِ صاحبِ الدّرّاجة.
نزل المساءُ. وتناول 'أوكُونكفو' و'أوكيكي' طبقَ 'الغُورُو' (طعامٌ يُحضَّر مِن مسحوق الموز) الّذي أُعدّ بشكلٍ فاخر والـحَساءَ الّذي أُعدّ لهما بصفةٍ شخصيّة. وبعد ذلك جلسا معا في غرفةِ الاستقبال، ووضعا الكيسَ بينهما. وانصرف صاحبُ المنزل عنهما لفترة قصيرة. ثمّ عاد بمجموعةٍ مِن النّاس يرتدون 'الأغْبَادَا' (نوع مِن الملابسِ الوطنيّة النّيجيريّة) المخْمليّة المطرَّزة بالذّهب والصّنادلَ الثّمينة. وقدّم أصدقاءَه إلى 'أوكُونكفو' و'أوكيكي' بقوله: «أصدقائي، وقد حدّثتُهم عنكما. فجاؤوا للتّرحيبِ بكمْ. ناسٌ محترَمون جدّا وكلُّ تجارة السّيّارات في المدينة بأيدينا». تسمّر 'أوكُونكفو' و'أوكيكي' في مكانيْهما مِن فرْط الحياء. وبعد التّحيّاتِ المتبادَلة، اِستدعَى صاحبُ البيت واحدا مِن الأصدقاء دون أن يلحظَ ذلك أحدٌ. وذهبا معا إلى غرفةِ النّوم. وهناك سأله بعد أن أوْصدَ البابَ: «كيف تَراهما؟ يا لَلبهيميْن! أمّا الكيسُ فمليءٌ بالنّقود. والآن اِسمعني. سنُتيح لهما في البدايةِ أن يربحا مئةً. فبالسّمكةِ الصّغيرة لن تصيدَ حوتا. اِسْـمعْ، كما قلتُ لك. وغدا نُصبح مِن الأثرياء». وفتح الصّندوقَ الخشبيَّ الصّغير، وأخرج مِنه ورقَ اللّعب. ثمّ دسّه في جيبه. وبعد ذلك عادا إلى غرفةِ الاستقبال. وانضمّا إلى الباقِين. وعند ذلك سُلّت الزّجاجاتُ مِن الجيوب الّتي لا قرارَ لها في 'الأغْبَادا'. وأخذ الضّيوفُ يشربون ويتفاخرون فيما بينهم باتّساعِ ثرواتهم. ثمّ ظهر ورقُ اللّعب. واستدعوا 'أوكُونكفو' و'أوكيكي' إلى اللّعب. لكنّهما امتنعا لأنّهما لا يعرفان أيّةَ لعبة. فقال الّذي معه الورقُ: «لعبةٌ في غاية البساطة. أنا أُوزّع، وأنتَ تسحب. فإذا وقعتْ معك هذه -وأشار إلى الآس البستونيّ- تكنْ قد ربحتَ. فإذا سحبتَ هذه، خسرتَ. وهذا كلُّ شيء». ومع ذلك كان 'أوكُونكفو' و'أوكيكي' يتردّدان في اللّعب. ولكنّهما لـمّا رأيا بعضَ اللاّعبين الآخرين وهم يجرفون النّقودَ، قرّرا الـمُجازفةَ. أعلن صاحبُ الورق: «لِنلعبْ على جنيه واحد. النّقودُ على الأرض. اِسحبْ». وراحَ 'أوكُونكفو' و'أوكيكي' يُراقبان صاحبَ الورق بإمعانٍ وهو يخلِطُ الورقَ ويوزّعه على الأرض. وبعد تفكيرِ دقيقة أو دقيقتيْن، وضع 'أوكُونكفو' يدَه على مجموعة مِنها، ووجد فيها آس البستوني. فربح. لقد حالف الحظُّ الجديديْن. وبعد قليلٍ مِن الوقت ربحَ 'أوكُونكفو' و'أوكيكي' معا مئةَ جنيه. فقال صاحبُ المنزل وهو يقدّم لهما ورقةً مِن فئة المئة جنيه: «هذا كافٍ بالنّسبة إلى اليوم. أنتما سعيدان. وغدا تحصلان على الشّاحنة. يا لكما مِن محظوظيْن، أيّها الأخَوان». وذهب الضّيوفُ. وبعد أن فرش صاحبُ البيت لـ'أوكُونكفو' و'أوكيكي' في غرفة الاستقبال، تمنّى لهما ليلةً سعيدة. ثمّ اتّجه إلى الغرفة الجانبيّة. ولـمَّا كان الجديدان قد أغفيا وَفْقَ تقديرات صاحب البيت، فإنّه فتح البابَ بهدوء. ونظر في الغرفة. كان الكيسُ مربوطا بسلسلةٍ إلى الكنبة. ففتح البابَ على مِصراعيْه. لكنّه عاد مِن توّهِ على أدراجه. فقد أخافه الإغراءُ. أمّا 'أوكُونكفو' و'أوكيكي' فكانا يَشْخِران بكامل قُواهما. وفكّر صاحبُ البيت بأنّه لم يسبقْ له أن رأى في حياته مثلَ هذيْن المغفَّليْن. ثمنُ الشّاحنة سبعُ مئة وخمسون جنيها. ويمكن أن يعتبرَ تلك السّبعَ مئة والخمسين الـمَحْشوّةَ في الكيس في جيبِه. وفكّر بينه وبين نفسه وهو يفتح البابَ بصمتٍ ويستلقي في فراشه: «غدا، غدا، غدا، أُصبح غنيّا». لكنّه في الصّباح عندما ذهب ليوقظَ ضيفيْه، لم يجدْ أحدا في الغرفة.
{ في عربة القطار السّريع كان 'أوكُونكفو' و'أوكيكي' يغسِلان وجهيْهما. قال 'أوكُونكفو' وهو يرشقُ وجهَه بالماء: «الطّعامُ والمبيتُ دون مقابل، ومئةُ جنيه فوق ذلك». فردّد 'أوكيكي' قائلا: «متى يعقِلون؟ شبّانٌ مغفَّلون كالإجّاص الفجّ. حتّى إنّهم لم يُزعجوا أنفسَهم بإغلاقِ الباب». وهكذا ظلاّ يُثرثران بينما كان القطارُ يبتعد. وعلى مَقبَضِ الباب كان يتأرجحُ الكيسُ الّذي أُفرغَ مِن محتواه. أمّا الأحجارُ والخِرقُ القديمةُ الّتي حملتْ لِلصّديقيْن مئةَ جنيه، فبقيتْ منثورةً على الأرض.
{ غابرييل أوكارا، 'عودةُ كامَاو: قِصصٌ قصيرةٌ مِنَ الأدبِ الإفْريقيّ ترجمة: د. عماد حاتم {
الدّار العربيّة للكتاب، صص (349-356)، ط1، 1987، ليبيا، (بتصرّف).
{ أجبْ عنِ الأسئلةِ التّالية كتابيّا:
-     مَن خَدعَ مَن في هذه الأقصوصةِ؟ بيّنْ ذلك مُستنِدا إلى الأحداثِ والشّخصيّات.
-     كيف صُوِّر الصّراعُ بين الرّيفِ والمدينة؟
-      ما القيمُ الأخلاقيّةُ الّتي يُدافعُ عنها الكاتبُ في هذا النّصِّ القصصيِّ السّاخر؟


ليست هناك تعليقات: